وفي هذه السنة - وهي سنة خمس - كانت وقعة الخندق في شوال . وسببها : أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين يوم أحد ، خرج أشرافهم - كسلام بن أبي الحقيق - وغيره إلى قريش بمكة يحرضونهم على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدهم من أنفسهم النصر لهم . فأجابتهم قريش . ثم خرجوا إلى غطفان : فاستجابوا لهم ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك فاستجاب لهم من استجاب .
فخرجت قريش - وقائدهم أبو سفيان - في أربعة آلاف . ووافقهم بنو سليمبمر الظهران ، وبنو أسد ، وفزارة وأشجع وغيرهم . وكان من وافى الخندق من المشركين عشرة آلاف .
فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار أصحابه . فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبادر إليه المسلمون . وعمل فيه بنفسه . وكان في حفره من آيات نبوته ما قد تواتر الخبر به .
وخرج صلى الله عليه وسلم وهم يحفرون في غداة باردة . فلما رأى ما بهم من الشدة والجوع . قال
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة</SPAN>
فقالوا مجيبين له
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما بقينا أبدا</SPAN>
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة آلاف من المسلمين . فتحصن بالجبل من خلفه - جبل سلع - وبالخندق أمامه . وأمر بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة .
وانطلق حيي بن أخطب إلى بني قريظة ، فدنا من حصنهم فأبى كعب بن أسد أن يفتح له . فلم يزل يكلمه حتى فتح له . فلما دخل الحصن قال جئتك بعز الدهر . جئتك بقريش وغطفانوأسد ، على قادتها لحرب محمد قال بل جئتني والله بذل الدهر جئتني بجهام قد أراق ماءه . فهو يرعد ويبرق ليس فية شيء .
فلم يزل حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل مع المشركين . وسر بذلك المشركون وشرط كعب على حيي أنهم إن لم يظفروا بمحمد أن يجيء حتى يدخل معهم في حصنهم فيصيبه ما يصيبهم فشرط ذلك ووفى له .
وبلغ رسول الله الخبر . فبعث إليهم السعدين - سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة - وخوات بن جبير . وعبد الله بن رواحة ليتعرفوا الخبر . فلما دنوا معهم وجدوهم على أخبث ما يكون . وجاهروهم بالسب . ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فانصرفوا ولحنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحنا .
فعظم ذلك على المسلمين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الله أكبر أبشروا ، يا معشر المسلمين " .
واشتد البلاء ونجم النفاق . واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة . وقالوا ( 33 : 13) إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا
وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا . ولم يكن بينهم قتال لأجل الخندق ، إلا أن فوارس من قريش - منهم عمرو بن عبد ود - أقبلوا نحو الخندق . فلما وقفوا عليه قالوا : إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها . ثم تيمموا مكانا ضيقا منه وجالت بهم خيلهم في السبخة ودعوا إلى البراز . فانتدب لعمرو : علي بن أبي طالب ، فبارزه . فقتله الله على يدي علي . وكان من أبطال المشركين .
وانهزم أصحابه . ولما طالت هذه الحال على المسلمين أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصالح عيينة بن حصن والحارث بن عوف - رئيسي غطفان - على ثلث ثمار المدينة وينصرفا بقومهما . وجرت المفاوضة على ذلك . واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم السعدين . فقالا : إن كان الله أمرك : فسمعا وطاعة . وإن كان شيئا تحب أن تصنعه صنعناه . وإن كان شيئا تصنعه لنا ، فلا . لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا . أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ؟ والله لا نعطيهم إلا السيف . فصوب رأيهما .
وقال " إنما هو شيء أصنعه لكم ، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " .
ثم إن الله عز وجل - وله الحمد - صنع أمرا من عنده خذل به العدو .
فمن ذلك أن رجلا من غطفان - يقال له نعيم بن مسعود - جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال قد أسلمت ، فمر بي بما شئت . فقال " إنما أنت رجل واحد . فخذل عنا ما استطعت . فإن الحرب خدعة " . فذهب إلى بني قريظة - وكان عشيرا لهم - فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه . فقال إنكم قد حاربتم محمدا . وإن قريشا إن أصابوا فرصة انتهزوها ، وإلا انشمروا قالوا : فما العمل ؟ قال لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن . فقالوا : قد أشرت بالرأي . ثم مضى إلى قريش فقال هل تعلمون ودي لكم ونصحي ؟ قالوا : نعم . قال إن اليهود قد ندموا على ما كان منهم وإنهم قد أرسلوا إلى محمد أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه ثم يمالئونه عليكم فإن سألوكم فلا تعطوهم . ثم ذهب إلى غطفان . فقال لهم مثل ذلك .
فلما كانت ليلة السبت من شوال بعثوا إلى يهود إنا لسنا معكم بأرض مقام وقد هلك الكراع والخف . فاغدوا بنا إلى محمد حتى نناجزه فأرسلوا إليهم إن اليوم يوم السبت وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه . ومع هذا فلا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن .
فلما جاءهم رسلهم قالوا : قد صدقكم والله نعيم . فبعثوا إليهم إنا والله لا نبعث إليكم أحدا . فقالت قريظة قد صدقكم والله نعيم . فتخاذل الفريقان .
وأرسل الله على المشركين جندا من الريح فجعلت تقوض خيامهم ولا تدع لهم قدرا إلا كفأتها ، ولا طنبا إلا قلعته وجندا من الملائكة يزلزلون بهم ويلقون في قلوبهم الرعب كما قال الله ( 33 : 9 ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها . وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان } يأتيه بخبرهم . فوجدهم على هذه الحال وقد تهيئوا للرحيل . فرجع إليه فأخبره برحيلهم .
فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف عن الخندق ، راجعا والمسلمون إلى المدينة . فوضعوا السلاح . فجاءه جبريل وقت الظهر فقال أقد وضعتم السلاح ؟ إن الملائكة لم تضع أسلحتها ، انهض إلى هؤلاء - يعني بني قريظة - فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة " .
فخرج المسلمون سراعا ، حتى إذا دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار . وقذف الله في قلوبهم الرعب . فقال لهم رئيسهم كعب بن أسد : إني عارض عليكم خلالا ثلاثا ، خذوا أيها شئتم نصدق هذا الرجل ونتبعه . فإنكم تعلمون أنه النبي الذي تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة .
قالوا لا نفارق حكم التوراة أبدا .
قال فاقتلوا أبناءكم ونساءكم واخرجوا إليه مصلتي سيوفكم حتى يحكم الله بينكم وبينه .
قالوا : فما ضر العيش بعد أبنائنا ونسائنا ؟
قال فانزلوا الليلة . فعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوكم فيها لأنها ليلة السبت - لعلنا نصيب منهم غرة . قالوا : لا نفسد سبتنا . وقد علمت ما أصاب من اعتدوا في السبت . قال ما بات رجل منكم - منذ ولدته أمه ليلة من الدهر حازما . ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فحكم فيهم سعد بن معاذ فحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء . وأنزل الله في غزوة الخندق صدر سورة الأحزاب . وذكر قصتهم في قوله ( 33 : 9 - 27 ) يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم - إلى قوله - وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم ثم دخلت السنة السادسة .