من حكمة الله البالغة أن أيَّد رسله بمعجزات وخوارق تُعجز أي كائن في الكون عن الإتيان بمثلها؛ وذلك لكي يعظم في نفوس قومه قيمة رسالته، فيؤمنوا به ويصدقوه؛ ولكي يكمم الأفواه، ويخرس الألسن، ويكبت قلوب المعارضين والمعاندين.
وجعل لكل نبي معجزة تتناسب مع ما كان عليه قومه حتى تقام الحجة والبرهان على من لم يؤمن به ويصدقه..
(( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ))
ليس من مواهبه الشعر ولا من طبيعته، وليس عنده وقت لتهوك الشعراء ووله الأدباء، وليس لديه خيال شارد يقتنص سوارح الأفكار، بل جاء برسالة جليلة ووفد بوحي عظيم، إن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس شاعراً يضرب الأخماس بالأسداس، ويهيم في أودية الخيال، بل هو نبي معصوم، كل كلمة منه دين، وكل جملة منه سنة؛ لأنه جاء لإصلاح العالم، وليس لدغدغة العواطف وملاعبة المشاعر كما يفعل الشعراء، فليس عنده فراغ في العمر لنظم بنيات الأفكار ولا لإطراب الجمهور، فهو مرشح لإنقاذ البشرية بإذن الله؛ ومن هذا حاله فالجد منهجه والحق مقصده والإصلاح أمنيته: ((إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ)).
ولم يكن صلى الله عليه وسلم شاعراً؛ لأن الشعر لا ينبني على الحقائق، ولا يقوم على البرهان، فالشعر مزيج من الخيال والهيام والغرام والوله والكذب والزيف، وصان الله رسوله صلى الله عليه وسلم من ذلك.
وما ينبغي لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقول الشعر، فما جاء لتسلية الناس ولا لمدح الملوك، ووصف الديار والبكاء على الآثار، بل أتى بنفسي هو لغسل الضمير من أوضار الشرك، وتطهير الروح من دنس الوثنية، وعمارة الكون بالإيمان، فأنفاسه تُعدّ، وثواني عمره تُحسب؛ لأن مهمته لا تحتمل التأخير فهو مبعوث من الخالق إلى الخلق برسالة محمدية عنوانها لا إله إلا الله محمد رسول الله. وإن مزاحمة الرسالة المحمدية الخالدة المعجزة بالفنون الأرضية وبالهوايات العاطفية والتسليات لهو تعطيل لهذه الرسالة عن أداء مهمتها وتفريغ لها من محتواها الجلي العامر.
إن مع محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أجمل من الشعر، وأبهى من الأدب، وأحسن من الحسن، ألا وهو هذا الكتاب الباهر المعجز الذي أسكت الشعراء، وأفحم الأدباء، وأذهل العلماء، وحير العرب العرباء:
إذا تغلغل فكر المرء في طرف من حسنه غرقت فيه خواطرُه
من معجزاته عليه الصلاة و السلام
عباد الله! إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد الله أن يحيي به القلوب الميتة، وأن يوقظ الأرواح الغافلة.
كان العرب قبل الإسلام ميتين، كانوا يعبدون الحجر والصنم والشجر والأوثان. يزنون ويغشُّون ويكذبون ويقطعون الأرحام ويتلاعنون، فلما أراد الله أن يحيي قلوبهم بعث محمداً صلى الله عليه وسلم، ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)).
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
.
بل كرم الإنسان حين اختار من بين البرية نجمها وهلالها
.
فلما أتى صلى الله عليه وسلم بكلمتين من أتى بهما يوم القيامة عاملاً بمقتضاهما فتح الله له باب الجنة، ومن لم يأت بهما فلن يفتح له باب الجنة وهو من الخاسرين.
يقول عمر بن الخطاب ، فاروق الإسلام، الخليفة العادل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء). (1) .
فأبواب الجنة الثمانية تفتح لك أيها العبد الصالح، يا ابن من سجدوا لله، يا ابن من رفعوا لا إله إلا الله، يا ابن من ماتوا تحت علم لا إله إلا الله، فليس بغريب أن تهتدي لكن الغريب أن تضل عن سبيل الله، ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)).
((فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)).
جلس صلى الله عليه وسلم في مسجده في المدينة ، المسجد الذي خرج علماء الدنيا وشهداء الدنيا وقواد الدنيا، جلس بين الصحابة فأتاه رجل من البادية يريد الإسلام، فلما تخطى الصفوف قال: (أين ابن عبد المطلب؟
) يعنىِ رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ابن عبد الله لكن جده عبد المطلب، كان أشهر في العرب من أبيه حتى يقول صلى الله عليه وسلم وهو يقاتل الأبطال في المعركة:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
. (1).
(قال: أين ابن عبد المطلب؟
قال صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك.
قال: إني أسألك مسألة فلا تغضب علي يا رسول الله.
قال: سل ما بدا لك.
قال: يا محمد يا رسول الله، من رفع السماء؟
قال: الله.
قال: من بسط الأرض؟
قال: الله.
قال: من نصب الجبال؟
قال: الله.
قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، الله أرسلك إلينا رسولاً؟
قال: اللهم نعم.
قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، الله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟
قال: اللهم نعم.
فأخذ يسأله حتى انتهى من أركان الإسلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر، ثم ولى وفكَّ عقال ناقته وركبها.
فقال صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا!). (1) .
هذا طريق الجنة أيها المسلمون، وهذا طريق السعادة أيها الأبرار، وهذا طريق النجاة أيها الأخيار.
فقل لبلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقّاً مصلِّيا
.
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به تلقَ أبواب الجنان الثمانيا
.
وقف صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر في مسجده في عز الصيف وفي شدة الحرارة، يقول أنس : والله ما في السماء من سحاب ولا غيم ولا قزعة، وبينما هو يخطب-صلى الله عليه وسلم بين يديه أبو بكر و عمر و عثمان و علي والشهداء والأخيار وهو في أثناء الخطبة، دخل أعرابي من البادية من الباب الغربي للمسجد فقال: (يا رسول الله، يا رسول الله، يا رسول الله.
فتوقف صلى الله عليه وسلم.
قال: ادع الله أن يغيثنا، فقد تقطعت السبل، وجاع العيال، وضاع المال.
فوالله ما تلعثم ولا توقف ولا فكّر، وإنما رفع يديه في أثناء الخطبة وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا).
قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: (والله الذي لا إله إلا هو، ما في السماء سحاب ولا غيم، ولقد أزبدت السماء وأرعدت في لحظات ثم أمطرت، ووالله ما نزل صلى الله عليه وسلم عن منبره إلا والمطر يتحدر من على وجهه الشريف وهو يتبسم من هذه النعمة ويقول: أشهد أني رسول الله).
ونحن نشهد أنك رسول الله، ونحن نشهد أنك بلَّغت الرسالة، ونحن نشهد أنك أدَّيت الأمانة، وأنك دللتنا على طريق الجنة، وبقي المطر أسبوعاً كاملاً.
وفي الجمعة الثانية قام صلى الله عليه وسلم يخطب في موضوع آخر، فدخل ذاك الأعرابي من نفس ذاك الباب فقال: يا رسول الله جاع العيال وضاع المال وتقطعت السبل من كثرة الأمطار، فادع الله أن يغيثنا الغيث.
فرفع صلى الله عليه وسلم يديه وهو يتبسم من هذا الأعرابي الذي أتى أولاً يطلب الغيث واليوم يريد رفع الغيث وهو يقول: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر. (1).
قال الصحابة: والله الذي لا إله إلا هو ما أشار إلى مكان إلا وقع فيه الغيث).
فمعجزاته صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم في الإسلام ألف معجزة وأكثر، وكل معجزة تكفي بأن يسلم بها الكافر ويذعن بها المتكبر ويدخل بها الفاجر في الدين.
كان له جذع نخلة يخطب عليه يوم الجمعة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم فقال للأنصار: (اصنعوا لي منبراً جديداً أخطب عليه، فأتوا بمنبر من خشب.
فلما أتى يخطب عليه ترك الجذع الأول جذع النخلة، قال جابر بن عبد الله: والله لما تركه سمعنا للجذع حنيناً كحنين الإبل وبكاءً كبكاء الأطفال، حتى سمعه أهل المسجد)
جذع من خشب يبكي للرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث في البخاري(1) .. وفي مسلم قال: [فتحدرت دموعه صلى الله عليه وسلم ونزل إلى الجذع يدهدهه ويسكّنه].
يا من تضوّع طيب القاع أعظمه فطاب من طيب ذاك القاع والأكم
.
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
.
أخذ يدهْد العود ويقول: (اسكت بإذن الله أنا رسول الله). حتى سكت.
يقول سبحانه وتعالى: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ)).
خرج صلى الله عليه وسلم على كفار قريش وهم في الحرم فقال: (يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، يا أيها الناس لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا أيها الناس إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
قال أبو جهل وحلف بآلهته: لا أسلم لك ولا أؤمن لك ولا أصدقك حتى تشق لي القمر ليلة البدر ليلة أربعة عشر والقمر في سماء مكة .
فقال صلى الله عليه وسلم: (أإن شققته تسلم وتؤمن؟
قال: نعم.
فدعا ربه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم شق هذا القمر ثم أشار بيده فانشق القمر فلقتين، فلقة ذهبت إلى عرفات ، وفلقة ذهبت إلى أبي قبيس، فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.
فقاموا ينفضون ثيابهم ويقولون: سحرنا محمد سحرنا محمد). (1) .
فيقول سبحانه وتعالى: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ)).
جاءهم والله آيات يشيب منها الوليد، جاءهم والله عبر يسلم منها الكافر، جاءهم والله بينات ومواعظ تدكدك منها الجبال، لكن أين القلوب؟
فما أسلم إلا القليل.
المسألة الثامنة: معجزة ظاهرة للرسول صلى الله عليه وسلم في رؤيته الجنة
والله عزّ وجل، يطلع من يشاء من عباده، ومعجزاته صلى الله عليه وسلم كما ذكر في أكثر من مناسبة أكثر من ألف معجزة.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك لغزو الروم ، ومعه جيش حافل عدده ثلاثون ألف مقاتل، وعشرة آلاف فرس، وآلاف من الإبل، قطعوا الفيافي، واجتازوا المفاوز، ونفد الماء، وأشرفوا على الهلاك والفناء، فلا آبار حولهم، ولا أنهار ولا أمطار، التمسوا الماء يمنة ويسرة، ولكن بلا جدوى، جفت ألسنتهم، وتيبست أكبادهم في أجوافهم: ((مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الله وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)).
صار هؤلاء المجاهدون في حالة شديدة وعسيرة، فأشار بعضهم على بعض أن ينحروا بعضاً من الإبل، ويخرجوا ما في بطونها من ماء! لقد وصل بهم الحال إلى هذا الحد وإلى هذا المستوى، وبلغ بهم الجهد والظمأ مبلغاً، حتى قال الفرزدق :
على ظمأٍ أن في القوم حاتما على جهده ضنت به نفس حاتم
أي: أنهم بلغ بهم الظمأ درجة لو أن حاتم الطائي المشهور بالجود والكرم معهم، ومعه ماء لمنعه عنهم، على ما هو عليه من الكرم والجود والسخاء والإيثار.
وذهب أبو بكر يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتدخل، لإنهاء هذه الأزمة، وحل هذه المشكلة، بأن يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إلى مولاه ويتضرع له بالدعاء فيجيب الله دعاءه، ويكشف ما بهم من كرب، ويحل عليهم من بركات وخيرات الله عز وجل.
وهذا أمر معهود ومعروف بينهم؛ فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يوم الجمعة يخطب، إذ يدخل أحد المسلمين فيقول: يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل، فادع الله أن يسقينا. فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخطبة، ورفع يديه إلى ربه سائلا مولاه، قائلا: اللهم أغثنا. فما هي إلا لحظة، فإذا بالله سبحانه الذي يقول للشيء كن فيكون، يرسل بإذنه سبحانه سحابة: كأنها الترس من وراء جبل سلع، فتعترض في سماء المدينة ، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزل من على المنبر، وامتلأت المدينة مطراً، ونزل الغيث، وأصاب المصلين في المسجد، وأصاب وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: أشهد أني رسول الله (1) .
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: [كنا إذا نظرنا إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر تذكرنا قصيدة عمه أبي طالب، وهو يثني عليه، فيقول في قصيدة طويلة، ذكرها ابن هشام في السيرة (1)
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
]
تنظر للوجه فقط؛ فتذكر الرحمة، وتستبشر بالاستسقاء بإذن الواحد الأحد، فمعه صلى الله عليه وسلم النور والخير والبركة.
غلام رماه الله بالحسن يافعاً عليه لمجد الصالحين به أثر
كأن الثريا علقت في جبينه وفي كفه الجوزا وفي وجهه القمر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه تردى رداء واسع الجيب واتزر
ويأتي أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من وسط الجيش، يتقدم إلى الرسول، ويقول: (لقد عودك ربك عوائد، فادع الله لنا يغيثنا.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه: اللهم أغثنا).
فأتت سحابة وغطت المعسكر، لا تزيد ولا تنقص، فتهل غيثها، وترسل عيونها، وتسكب ماءها، فامتلأت الأحواض والخنادق والقرب والأواني، فهذا يغتسل، وهذا يتوضأ، وهذا يرتوي، وهذا يسقي بعيره، وهذا يتبرد بالماء من شدة الحر.
ولم يتجاوز المطر حدود معسكر المسلمين، ولم ينقص عنهم شيئاً، أليس في هذا دليل على صدق هذا الرسول وعلى تأييد الله له؟
وأن هذا الرسول صاحب معجزة من الله وبرهان صدق؟
وها هي بعض المعجزات التي بلغت الألف معجزة أو تقرب ذلك، تدل دلالة واضحة على صحة ما جاء به من عند ربه، وأنه مؤيد من قبل الله وصادق فيما يدعو إليه.
ذكر ابن سعد أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما، فقالا له: (يا رسول الله! نريد سفراً فزودنا، ولم يكن عنده زاد ولا شيء.
عرضت له الجبال فأراها من نفسه أيما شمم
وأبدت زهده فيها ضرورته إن الضرورة لا تغدو على الغشم
فماذا يفعل رسول الله معهما؟
قال لهما: عندكما قربة؟
قالا: نعم. قال: املآ القربة ماء واذهبا، فإن الله سوف يرزقكما طعاماً، قالا: فسافرنا فلما احتجنا وجدنا القربة لبناً وزبداً فأكلنا من الزبد، وشربنا من اللبن طيلة السفر، حتى رجعنا).
فهذه آية من آياته البينات، والله أيده بالمعجزات ليؤمن من يؤمن، ويزداد إيمانا من يزداد، وتقوم الحجة على أعداء الله، وعلى الكفرة والملحدين.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضت علي الأمم جعل النبي والنبيان يمرون معهم الرهط، والنبي ليس معه أحد، حتى رفع لي سواد عظيم، قلت: ما هذا؟
أمتي هذه؟
قيل: هذا موسى وقومه. قيل: انظر إلى الأفق، فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر هاهنا وهاهنا في آفاق السماء، فإذا سواد قد ملأ الأفق، قيل: هذه أمتك، ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفا بغير حساب، ثم دخل ولم يبين لهم فأفاض القوم وقالوا: نحن الذين آمنا بالله واتبعنا رسوله، فنحن هم، أو أولادنا الذين ولدوا في الإسلام فإنا ولدنا في الجاهلية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون فقال عكاشة بن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟
قال: نعم. فقام آخر فقال: أمنهم أنا؟
قال: سبقك بها عكاشة) (1)
هكذا ولم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: لست منهم. وهذا من البلاغة، فقال له: (سبقك بها عكاشة ).
وهذا نهاية البيان والبلاغة، ولو فتح الباب لقام أهل المسجد يطلبون ويسألون مثل عكاشة ، وقد يكون فيهم من ليس مثل عكاشة .
وعكاشة قتل شهيداً يوم اليمامة يوم قاتل مسيلمة الكذاب ، وقد كان في بدر يقاتل حتى انكسر سيفه.
قال ابن إسحاق : وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي حليف بني عبد شمس بن عبد مناف يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب، فقال: (قاتل بهذا يا عكاشة).
فلما أخده من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه، فعاد سيفاً في يده طويل القامة، شديد المتن، أبيض الحديدة، فقاتل به؛ حتى فتح الله تعالى على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى: العون.
ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله حتى قتل في الردة، وهو عنده، قتله طليحة بن خويلد الأسدي ، فقال طليحة في ذلك:
فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم أليسوا وإن لم يسلموا برجال
فإن تك أذواد أصبن ونسوة فلن تذهبوا فرغا بقتل حبال
نصبت لهم صدر الحمالة إنها معاودة قيل الكماة نزال
فيوما تراها في الجلال مصونة ويوما تراها غير ذات جلال
عشية غادرت ابن أقرم ثاوياً وعكاشة الغنمي عند مجال
(1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله. قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئا في مقامك، ثم رأيناك كعكعت؟
قال صلى الله عليه وسلم: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء. قالوا: بم يا رسول الله؟
قال: بكفرهن. قيل: يكفرن بالله؟
قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئا، قالت: ما رأيت منك خيراً قط) (1)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: (رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار، كان أول من سيب السوائب) (1) ، وأول من أدخل الأصنام جزيرة العرب.
وعندما انتهت غزوة خيبر ، أتت امرأة يهودية وأخذت شاة وذبحتها وشوتها وحنذتها ثم سألت: أي عضو يحبه محمد؟
قالوا لها: الذراع، فأخذت سماً وجعلته في ذراع الشاة المصلية، ودعت إليه محمداً.
وكان من خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرد داعياً، فقبل دعوة المرأة اليهودية ، حتى إنه كان يقول: (لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت) لأنه سيد المتواضعين يجيب مرة دفعا للسوء، ومرة جلباً للصلح، ومرة تأليفا للقلوب، ومرة زيادة في المحبة. فأجاب المرأة