لما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة جمع الناس فى المسجد وحمد الله ثم أثنى عليه وصلى على نبيه ثم قال:
(أيها الناس إنى قد ابتليت بهذا الأمر على غير رأى منى ولا مشورة من المسلمين
وإنى خلعت ما فى أعنقكم من بيعتى فاختاروا لإنسكم خليفة ترضونه
فصاح الناس صيحة واحدة:
قد اخترناك ياأمير المؤمنين ورضينا بك فتول أمرنا باليمن والبركة)
وعند ذلك طفق يحض الناس على التقوى ووقف فيهم خطيبا يزهدهم فى الدنيا ويرغبهم فى الآخرة ثم نزل عن المنبر واتجه إلى بيته وآوى إلى حجرته وما كاد يسلم جنبه إلى مضجعه حتى أقبل ابنه عبد الملك وقال له:
ماذا تريد ان تصنع يأ أمير المؤمنين؟!
فقال:أى بنى أريد أن أغفو قليلا
فقال:أتغفوا قبل أن ترد المظالم إلى أهلها يا أمير المؤمنين؟!
فقال:أى بنى إنى قد سهرت البارحة فى عمك سليمان وإنى إذا حان وقت الظهر صليت فى الناس ورددت المظالم إلى أهلها إن شاء الله
فقال:ومن لك يا أمير المؤمنينبان تعيش إلى الظهر؟!
فالهبت هذه الكلمة عزيمة عمر وقال : الحمد لله الذى أخرج من صلبى من يعيننى على دينى ثم قام وأمر أن ينادى فى الناس :ألا كل من كانت له مظلمة فليرفعها
فمن عبد الملك هذا؟!
ما خبر هذا الفتى الذى قال الناس عنه إنه هو الذى أدخل أباه فى العبادة
لقد كان عبد الملك واسطة العقد فى أبناء عمر له سن الفتيان وعقل الكهول
ثم إن نشأ فى طاعة الله منذ نعومة أظفاره فكان أقرب الناس سمتا إلى آل الخطاب عامة أشبههم بعبدالله بن عمر خاصة فى تقواه لله وتخوفه من معاصيه وتقربه إليه بالطاعة
وقد تتلمذ الفتى العمرى على أكابر عصره حتى تملى من كتاب الله وتضلع بحديث رسول الله وتفقه فى الدين
فغدا على حداثة سنه يزاحم الطبقة الأولى من فقهااء أهل الشام فى زمانه
ولقد آثر الفتى العمرى المرابطة على الثغوروالإقامة فى إحدى المدن القريبة منها على الإقامة فى بلاد الشام ذات الرياض النضرة والظلال الظليلةوكان أبوه على الرغم من كل ما عرفه من صلاحه وتقاه شديد الخوف عليه من نزغات الشيطان كثير الإشفاق عليه من نزوات الشباب حريصا أن يعلم من أمره كل ما يجوز له أن يعلم ولا يغفل عن ذلك أبدا
يقول سلمة بن دينار عالم المدينة وقاضيها وشيخها
قدمت على خليفة المسلمين وهو بخناصر من أعمال حلب وكان قد تقدم بى السن فوجدته فى صدر البيت غير إنى لم أعرفه لتغير حاله عما عهدته عليه يوم كان واليا على المدينة فرحب بى وقال أدن منى يا أبا حازم ،فلما دنوت منه قلت :
ألست أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ؟
فقال بلى...
فقلت ما الذى قد حل بك ألم يكن وجهك بهيا ..وإهابك طريا وعيشك رخيا ، فقال :بلى
فقلت: فما الذى غيرما بك بعد أنغدوت تملك الأصفر والأبيض وأصبحت أمير المؤمنين؟!
فقال وما الذى تغير يا أبا حازم ؟!
فقلت جسمك الذى نحل وجلدك الذى اخشوشن ووجهك الأصفر وعيناك الذى خبا ومضهما فبكى وقال:
فكيف بك لو رأيتنى فى قبرى بعد ثلاث؟!
وقد سالت حدقتاى على وجنتى .......وتفسخ بطنى وتشقق وانطلق الدود يرتع فى بدنى
إنك لو رأيتنى آنذاك ياأبا حازم لكنت أشد إنكارا لى من يوك هذا
قال عمر بن عبد العزيز لدكين بن سعيد (أحد الشعراء الرجازة البداوة):
يا دكين إن لى نفسا تواقة ما نالت شيئا قط إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه وها أنا ذا قد نلت غاية ما فى الدنيا وهو الملك فنفسى تتوق الآن إلى غاية ما فى الآخرة وهو الجنة وتسعى إلى الفوز برضوان الله
ولئن كان الملوك يجعلون الملك سببا لعز الدنيا فلأجعلنه سبيلا إلى بلوغ عز الآخرة